لا يكاد يخلو بيت من بيوت أسرة التركيت إلا وكانت فيه مكتبة (الحلقة التاسعة)
عبدالعزيز حسين..ثقافته ولغته وصفاته..من أين اكتسبها؟
- قرأ عبدالعزيز حسين الأدب القديم واستظهر معظم روائعه وحفظ لشعراء جمة
- كان يحب شعر المتنبي وقرأ شعر زهير بن أبي سلمى والبحتري..والأدب العالمي
- عنايته بالثقافة والتعليم نابعة من عناية والده وأجداده بالعلم والثقافة والمعرفة
- لم يكن يُقصِر قراءته على علم بعينه... بل كان موسوعي القراءة والثقافة.
في هذه الحلقة من كتاب عبدالعزيز حسين (حياته وآثاره) سنسلط الضوء على شخصية عبدالعزيز حسين وثقافته ولغته وصفاته، وذلك لنتعرف أكثر وعن قرب عن الظروف والشواهد التي أثرت في شخصيته وتربيته ونشأته.
فكما ذكرنا في الحلقات السابقة، فقد نشأ عبدالعزيز في أسرة كريمة عرف عنها حبها للعلم والثقافة، حيث كان لتلك الأسرة وخصوصاً والده دور كبير في نشأته واهتمامه بالعلم والثقافة والأدب، الأمر الذي انعكس على شخصيته وأكسبه دوراً بارزاً في العديد من المحافل بدءاً من مراحل تعليمه ووصولاً إلى الدراسة الجامعية وما تبعها بعد ذلك من محافل محلية وخارجية.
كان لمكتبة والده "الملا حسين" دور كبير في ثقافته، فقد تفتح وعيه على هذه المكتبة الغنية والثرية بالكتب والمخطوطات، فأخذ ينهل منها فضلًا عن الميل الفطري لدى أسرته إلى حب العلم والثقافة، يقول محمد ملا حسين (1912-1997) في معرض حديثه عن أسرته:
"إن تعلق والدي ومن قبله والده وأجداده بالعلم والمعرفة سواء الدينية منها أو الأدبية أو الثقافية عامة، وكذلك توفر المراجع والمؤلفات هيَّأ لي أنا فرصة التوجه للتعليم وسعة الاطلاع".
ولا يكاد يخلو بيت من بيوت أسرة التركيت إلا وكانت فيه مكتبة على الرغم من ظروف الحياة الصحية آنذاك، كما يحدثنا محمد ملا حسين عن مكتبة والده قائلًا: "وقد امتلك والدي مكتبة زاخرة بمختلف المؤلفات الأدبية والدينية والتاريخية كان من بينها على ما أذكر: شرح القاموس للزبيدي، تاريخ الطبري، نهاية الأرب في فنون الأدب للنويري، تاريخ ابن خلكان، معجم البلدان لياقوت الحموي، ودواوين لشعراء مثل: المتنبي والبحتري والأخرس البغدادي، وكانت كل هذه المؤلفات تحت تصرف رواد ديوان والدي طوال حياته التي امتدت حتى عام 1962.
ومن أهم المخطوطات التي كانت موجودة في مكتبة والده والتي ورثها عنه مخطوطة كتاب "الموطأ" للإمام مالك بن أنس وهي منسوخة بخط أنيق وضبط دقيق، قام بنسخها مسيعيد بن أحمد بن مساعد بن سالم في فيلكا عام (1094هـ-1682م)، وتأتي أهمية هذا المخطوط لأنه يثبت أن الكويت كيان سياسي يتجاوز الثلاث مئة سنة.
كما قرأ عبدالعزيز حسين الأدب القديم واستظهر معظم روائعه وحفظ لشعراء جمة، منهم: المسيب بن علس الذي يقول عنه: "هذا الشاعر البحريني [المسيب بن علس] القديم، الذي أولع بالحديث عن صيد اللؤلؤ فجسد لنا شخصية المنطقة بقصائده الرائعة، وخطط لحياتها الاقتصادية والاجتماعية منذ أن أخذ يرسم إطاراً من صور الشعر له خصائص الشعر المسرحي لأنه يقوم على التشخيص والتجسيد، فرأينا من خلال الإطار الشعري كيف تعيش هذه المنطقة من عالمنا العربي قبل فجر الإسلام، وكيف صارع الإنسان العربي فيها قوى الطبيعة ممثلة في أعماق البحر، وأقاصي الأرض، حيث كان يبحث عن محارات اللؤلؤ أو يرتاد سبل الرزق برحلاته.
كما قرأ لطرفة بن العبد ذلك الشاعر البحريني -كما يقول- الذي حَدَّد كغيره من الشعراء سمات الشخصية العربية. وكان يحب شعر المتنبي ويقرأ شعر زهير بن أبي سلمى والبحتري، كما أنه كان مغرماً بالأدب العالمي.
وكان يحلو له أن يُنادَى بأبي هاني اعتزازاً بشخصية ابن هانئ الأندلسي، (326-362هـ) شاعر المغاربة الذي يقابل المتنبي عند أهل المشرق.
إن عناية عبدالعزيز حسين بالثقافة والتعليم كانت نابعة من عناية والده وأجداده بالعلم والثقافة والمعرفة، فهو امتداد لبيت مشغول ومأخوذ بالعلم والثقافة.
لقد كانت الثقافة عند عبدالعزيز حسين الكيان الذي يُحقق من خلاله ذاته وإنسانيته، كلّ عمل يعمله كانت الثقافة محوره وهدفه، وكان يقول: "إن الثقافة تعطينا القدرة على التعامل العقلاني، والذكي مع الواقع، وهي التي تمدنا برؤية تتجاوز الواقع الآن، لتطل على المستقبل.. فالثقافة عنصر مهم من عناصر التنمية، ورابط لا غنى عنه للبناء الاجتماعي.
ولا غرو أن أثمرت هذه الثقافة والمطالعة المستمرة مكتبة تجاوزت الخمسة عشر ألف كتاب، وهي مكتبة شاملة متنوعة في معظم الفنون والعلوم، فلم يكن يُقصِر قراءته على علم بعينه، بل كان موسوعي القراءة والثقافة، فجاءت مكتبة متنوعة المعارف، مختلفة المصادر، وقد أوصى بأن تكون مكتبة متاحة للجميع.
لغته:
يتمتع عبدالعزيز حسين بلغة سليمة صافية تُسقى من عين آنية، ليس فيها صخب ولا لغوب، بسيطة التركيب، تحمل معاني إنسانية وتوجيهات علمية، خالية من التشدق والتنطع لفظاً، ومن التعسف والابتذال عبارة، القرآن الكريم معينها والثقافة الدينية واللغة الشعرية مشربها.
ينزع نحو اللغة العلمية الأدبية التي تسير بين العلم والأدب، فلا تدفعنا نحو النفور منها لصعوبتها، ولا تجعلنا نستخف بها لابتذالها، إنه كان يتخذ بين هذا وذاك سبيلاً.
ونكاد نرى أثر ثقافته وقراءاته واضحاً في لغة مقالاته الافتتاحية في مجلة "البعثة" التي تشي بصاحب عقلية منظمة ورؤية واضحة، ومعرفة عميقة وواعية على الرغم من حداثة سنه واخضرار عوده.
صفاته:
كان ذا خلق رفيع وعواطف إنسانية متدفقة، جمَّ التواضع، لطيف المعشر، زكي القلب، حسن الطوية، قليل الكلام، دائم الابتسام، هادئ الطبع، حاضر البديهة، واسع الصدر، ثاقب الفكر، بعيد النظر، جلوداً، صبوراً، وقوراً حاد الذكاء، ترتسم عليه علامات الهيبة، يميل إلى الدعابة دون ابتذال، يحيط بمن حوله بجناح الأبوة والرعاية، يتسم بالحكمة والتعالي عن الصغائر والرقة والنزاهة، فيه شيء من الكبرياء الفكري والاعتداد بالنفس، سديد التفكير، نير الأفكار، له بعد نظر في الكويت ومستقبل أبنائه.
عبدالعزيز حسين إنسان عابر للزمان والمكان، صالح لكل العصور، أجمع كل من عرفه وتعامل معه على إنسانيته، وحسن معشره، عربي الهوى، كويتي الجذور والانتماء، سليم العقيدة، منكر للذات، عصامي التكوين، ينطبق عليه قول ابن الوردي:
لا تقلْ أَصلي وفصلي أبداً إنما أصلُ الفتى ما قدْ حصلْ
قيمةُ الإنسانِ ما يحسِنُهُ أكثرَ الإنسانُ منهُ أوْ أقلْ
اكتفى بأن يُعْرف بـ "عبد العزيز حسين" دون إضافة اسم عائلته، وفي هذا ملمح من ملامح إنكار الذات والاعتزاز بالنفس، والتأكيد على أنه عصامي التكوين وليس عظاميّاً
ويصفه صديقه زكريا نيل قائلاً: "كان عبدالعزيز حسين خفيض الصوت فيه رزانة تكسوها ابتسامة تعبر صفحة وجهه من لحظة إلى أخرى، متعصب لعروبته وللكويت قبل أيّ شيء آخر، كان يؤمن بأن صمام الأمن الوطني والمستقبلي للكويت هو في قيادة آل الصباح.
كما كان نظيف اليد، لم تغرِه الأموال ولم تفسده المناصب، ملايين الدنانير تحت يديه تدور حوله، ولكنه كان محصناً ضد الغنى والثروات، ومع ذلك يلجأ بعد فترة لاستبدال جزء من راتبه التقاعدي".
يكره الظهور والحضور الإعلامي، ولا يحب الدعاية والإعلان عن الذات، يفرض احترامه على الآخرين بما يتمتع به من سمات شخصية جاذبة، تجعل الآخر يُقبل عليه بود راغباً في صداقته غير راغب عنها.
عروبي النزعة والهوى، يرى في العرب ملاذاً وعظمة في تحقيق الأهداف الوطنية والقومية، نزع بواسع وعيه وثاقب نظرته نحو تمتين العلاقات بين الكويت وسائر البلاد العربية وخاصة مصر حتى تحقق له التمكين من ذلك مستقطباً للكويت أفضل المدرسين وخيرة المعلمين الذين أسهموا إسهاماً ملحوظاً في النهوض بالحركة التعليمية في الكويت.
كما كان عبدالعزيز حسين صموتاً يؤثر التأمل والتفكر على الكلام، فإن نطق لا ينطق إلا عن علم، وإن صمت فلا يصمت إلا عن علم أيضاً.
كان يؤمن بالحوار والنقاش في طرح القضايا والسعي لحلها، ولم يكن يتخذ قراراً أو خطوة دون أن يدرسها ويكون للنقاش والحوار دور في إقرارها. لقد كان مجموعة من البشر في إنسان يفكر بعقولهم ويؤمن بقلوبهم فيأتي القرار صائباً، والثمرة ناضجة تؤتي أكلها في كل حين.
جمع في تكوينه وفي تفكيره وفي شخصيته ما بين الاتجاهين الإسلامي والقومي محققاً التوازن والمعادلة الصعبة التي استعصت على الكثير من الناس والمفكرين أيضاً.
وكان قوي الحجة في النقاش، ويحظى باحترام الجميع، كان متعدد المواهب، وذا عطاءات متعددة ومتنوعة، يرفض الاستعجال في الحكم على الأمور ويميل إلى التأني، يُكيف الصعب من الأمور ليصبح سهلاً يسيراً.
وصفه الأستاذ طه السويفي مدير معارف الكويت آنذاك قائلاً: "ويشرف على بعثة الكويت الأستاذ عبدالعزيز حسين خريج معهد التربية العالي، وهو مُربٍّ حاذق، وطالب علم مُجد، يقوم بأعباء منصبه على أحسن ما يرام بكلِّ إخلاص مُرضياً ضميره".
لم يكن عبدالعزيز حسين رجل مناصب يطلبها لذاتها، أو رجل كرسي يسعد بجلوسه عليه، بل كان رجل علم وثقافة وصاحب رسالة هادفة وغاية نبيلة، تتجسد في إنجازاته، وتتجلى في مشروعاته الثقافية.
تميز باقتداره على الخطابة والكتابة ومواجهة الجموع والجمهور فقد كان يتولى إلقاء الكلمات والخطب في اللقاءات والاحتفالات والمناسبات سواء في مصر أو في لندن كما هو ثابت في مجلة البعثة. وكان شخصية محبوبة، قريبة من النفس، له حضور وافر، وغيابه مدرك.
أطلق عليه الأستاذ الدكتور شاكر مصطفى (1921-1997): "مهندس الدولة" وواضع الخطوط الريادية فيها، لأنه أحبّ الكويت حُبّاً جمّاً وأحبته الكويت، فعمل من أجلها مُنكراً لذاته غير طالب سوى رفعتها والتعريف بها، فعلا فيها شموخاً وعلا فيها ذِكراً وحضوراً
كان رجل دولة وصاحب قرار ورؤية شاملة لصالح الوطن والمواطن، يُؤثر المصلحة العامة على مصالحه الشخصية ومكاسبه المالية، كان رجل دولة يفكر في الحاضر كقاعدة للتفكير في المستقبل، حديثه عن الإصلاح هو حديث عن المنظومة المترابطة والمتكاملة في تحقيق تطور وتنمية البلاد.
0 التعليقات:
أضف تعليقك